حقوق العامل في الإسلام

تُعد حقوق العامل في الإسلام من القيم الأساسية التي حرصت الشريعة الإسلامية على ترسيخها، حيث أعطت للعامل مكانة رفيعة، ووضعت تشريعات تحفظ حقوقه وتضمن كرامته. حيث جاء الإسلام ليؤكد أهمية العمل كوسيلة لتحقيق التوازن بين الجوانب الروحية والمادية في حياة الإنسان.

يحث الإسلام المسلمين على الاجتهاد في السعي والكدّ، مع التأكيد على عدالة التعامل مع العمال ومراعاة احتياجاتهم. وقد وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة العديد من الآيات والأحاديث التي تدعو إلى حفظ حقوق العمال والعمل الصالح، وتُبرز أهميته في بناء المجتمع وتحقيق التنمية.

يعكس ذلك قيمة العمل كركيزة أساسية في حياة المسلم. فالإسلام دين ونظام حياة، ومن أسباب كماله وشموله؛ بيانه لأحكام المعاملات بين الناس. ففيه نظم عادلة حفظت حقوق العباد، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً، كما حفظت هذه النظم حقوق العمال في الإسلام. فلقد حرم الدين الإسلامي كل أشكال الظلم، والاستبداد، والاستغلال، والتسلط، والاعتداء. 

في هذا المقال نتعمق بالحديث عن حقوق العمال في الإسلام، من حيث التعامل وحفظ الكرامة، وعدم تحميلهم ما يفوق طاقتهم على العمل، وحقهم في أداء العبادات والطاعات، وحصولهم على الأجر العادل أيضًا، والمزيد.

قال الله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) – التوبة: 105

 في هذا المقال:

حقوق العامل في الإسلام

حقوق العامل في الإسلام

كل الناس متساوون في الإسلام من حيث الإنسانية والكرامة، فقد كرم الله بني آدم بغض النظر عن اختلاف ألوانهم، أو لغاتهم، أو جنسياتهم. ومع ذلك، خلق الله الناس بدرجات متفاوتة ليكمل بعضهم بعضًا وتستمر عجلة الحياة. 

فلكل فرد دورٌ يؤديه يخدم به مجتمعه، فصاحب المال يساهم من خلال استثماره في إنشاء المشاريع التي تعود بالنفع على الجميع، بينما يلعب العامل دورًا أساسيًا في تنفيذ هذه المشاريع وتحقيق أهدافها. ومن هذا المنطلق، يحتاج صاحب المال إلى العامل، كما يحتاج العامل إلى صاحب المال.

قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) – الحديد: 25

يدعو الله عز وجل إلى العدل في جميع آيات الذكر الحكيم، والعدل مع العمال وإيتاؤهم حقوقهم هو شكلٌ من تلك الأشكال المفروضة على الناس، ففيها تستوي النفوس، ويعلم العامل أنه حاصلٌ على حقه لقاء مجهوده وتعبه دون نقصان. وقد وضع الإسلام قواعد واضحة لهذه العلاقة بين العامل وصاحب العمل، بحيث تضمن حقوق الطرفين، وفيما يلي أبرز حقوق العامل في الإسلام:

حق العامل في احترام إنسانيته

كرم الله الإنسان، وجعل له في الإسلام كرامة وحرمة، دون النظر إلى عرقه أو دينه أو طبيعة عمله، وخير دليل على ذلك هو خير البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه: “خدمتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عشرَ سنينَ، فما قال لي أُفٍّ قطُّ، وما قال لي لشيٍء صنعتُه: لِمَ صنعتَه، ولا لشيٍء تركتُه: لِمَ تركتَه” – متفق عليه

لذا يجب على صاحب العمل أن يحافظ على كرامة العامل، وألَّا يضعه في موضع يشعر فيه بالذل أو السخرة أو الإهانة، وأن يحفظ عليه عزة نفسه واحترامه لنفسه. فالعلاقة بين الطرفين لا تعني استقواء أحدٍ على الآخر. ومن اللطيف أن يتجه صاحب العمل بالشكر والتقدير إلى العمال عند أدائهم الأعمال الموكلة إليهم، فقد أشار النبي الكريم إلى ذلك بقوله: “من لا يشكر الله لا يشكر الناس”- حديثٌ حسن.

العامل ليس مجرد أداةٍ ربحية يستخدمها صاحب العمل لتحقيق الأرباح ونمو المؤسسة، وإنما هو شريك في تحقيق النجاح والبناء، ومتى نظر إليه صاحب العمل بتلك النظرة فسيشعر العامل بالتقدير والرضا عن الذات، وسينعكس ذلك على أدائه في العمل، لأنه سيشعر بالاحترام والمسؤولية عن العمل كما لو كان عمله الخاص. كما يشمل احترام إنسانية العامل الاستماع إلى آرائه ومعاملته بكرامة.

اقرأ أيضًا: أحكام الشريعة الإسلامية في العمل

حق العامل في عدم تكليفه فوق طاقته

حق العامل في عدم تكليفه بما يتجاوز قدرته أمرٌ أساسي تُقرّه الشريعة الإسلامية، وتؤكده النصوص الدينية. فلا يجوز لصاحب العمل أن يفرض على العامل مهامًا تفوق طاقته أو تُرهقه بما يضر بصحته أو يجعله عاجزًا عن أداء واجباته، وذلك انسجامًا مع القاعدة الشرعية التي تنص على أنه “لا تكليف إلا بمقدور”.

قال الله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) – البقرة: 286

وقد جاء في السنة النبوية تأكيدٌ لهذا الحق حتى في سياق الرِق، وهم أقل درجة من العمال من حيث الحرية. فقد قال النبي ﷺ: “للمملوك طعامه وكسوته، ولا يُكلف إلا ما يطيق؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم، ولا تعذبوا عباد الله؛ خلقًا أمثالكم”- رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه ابن حبان والألباني.

وعليه، إذا أُلزم العامل بمهام تؤدي إلى إنهاكه وتؤثر على صحته أو مستقبله المهني، فإنه يمتلك الحق في فسخ العقد أو رفع الأمر إلى الجهات المسؤولة للنظر في مظلمته ورفع الضرر الواقع عليه، ضمانًا لحقوقه وحمايته من استغلال صاحب العمل. كما أن تكليف العامل بمهام تفوق طاقته يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية على مستوى الفرد والمؤسسة. على المستوى الشخصي، قد يتسبب ذلك في الإرهاق الجسدي والنفسي، مما يزيد من خطر التعرض للحوادث أو المشكلات الصحية طويلة المدى.

أما على مستوى المؤسسة، فإن الضغط الزائد على العامل يؤدي إلى تراجع الإنتاجية وزيادة معدلات الغياب أو الاستقالات، مما يضر بالكفاءة العامة. يمكن لصاحب العمل ضمان تحقيق العدل في التكليف من خلال تقييم القدرات الفردية للعاملين، وتوفير دورات تدريبٍ تتلاءم مع حاجاتهم، والالتزام بساعات العمل القانونية، وفتح قنوات التواصل بين العاملين وأصحاب العمل للاستماع إلى مقترحاتهم وشكاويهم.

حق العامل في أداء فرائضه الدينية

من المبادئ الأساسية التي تؤكدها الشريعة الإسلامية أن يكون للعامل الحرية الكاملة في أداء العبادات المفروضة عليه، كالصلاة والصيام، دون أي قيود أو تضييق من صاحب العمل. بل ينبغي عليه أن يتيح للعامل الوقت والمكان المناسبين للقيام بواجباته الدينية، باعتبار أن التزام العامل بدينه يجعله أكثر إخلاصًا في عمله، وأكثر حرصًا على أداء مهامه بأمانة ومراقبة ذاتية. 

يجب على صاحب العمل الحذر والابتعاد عن منع العامل عن أداء واجباته الدينية، لأن ذلك يُعدّ من أعظم أنواع الظلم. فقد توعّد الله الذين يُعطلون شعائر الدين ويصدّون عن سبيله بالضلال والهلاك.

قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) – إبراهيم: 3

ليس من واجب صاحب العمل السماح للعمال بأداء شعائرهم وحسب، بل يُستحب له أن يشجعهم على ذلك، وأن يكون قدوة حسنة في الالتزام بالأخلاق الدينية، والتحلي بالسلوك الحسن، فلذلك أثرٌ إيجابي كبير على العلاقة بين العامل وصاحب العمل. إذ أن العامل الذي يشعر باحترام دينه وحقوقه يكون أكثر استقرارًا نفسيًا ورضا وظيفيًا.

بالإضافة إلى أن إظهار الاهتمام بالجانب الديني والأخلاقي للعمال يُعزز من شعورهم بالانتماء والولاء للمؤسسة، مما يدفعهم إلى التفاني في العمل، والحرص على حماية مصالح صاحب العمل، بل والدفاع عنها بصدق وإخلاص.

من جانب آخر فإن هناك العديد من التحديات والعقبات التي تواجه صاحب العمل في منح هذا الحق للعامل، كعدم توفر المساحة المناسبة لإنشاء مكان خاصٍ بالعبادة، أو ضيق الوقت وضغط العمل. على صاحب  العمل أن يدرس تلك التحديات ويسعى إلى إيجاد الحلول المناسبة. قد تكون السياسات الواضحة مسبقًا هي خير وسيلة، بحيث تضمن حق العامل في العبادة، وحق صاحب العمل في الانتفاع الكامل من وقت العامل المخصص للبذل والعطاء.

اعرف المزيد عن: تعرف على نظام العمل في السعودية

حق العامل في الأجر العادل

أولى الإسلام عنايةً خاصةً بأجر العامل، واعتبره من أهم الالتزامات التي تقع على عاتق صاحب العمل، انطلاقًا من رؤيته للعمل كعبادة وقربة إلى الله. فالعمل في الإسلام ليس مجرد وسيلة لكسب الرزق، بل هو فعلٌ يحمل أبعادًا دينية وأخلاقية. فالعامل الذي يسعى للإنفاق على أهله، وولده، ووالديه، وإعفاف نفسه عن الحاجة يُعدّ في مقام العابد. 

ورد ذكر الأجر في القرآن الكريم في العديد من المواضع، حيث يعبر عن الجزاء العادل للعمل، سواء كان دنيويًا أو أخرويًا. للتأكيد على أن الأجر ليس محصورًا في المقابل المادي فقط، بل ويشمله إلى الجانب المعني.

قال الله تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) – الأحقاف: 19

يشدد الإسلام على الوفاء بحقوق العمال وأجورهم دون مماطلة أو نقصان. ويُعدّ التأخير في دفع الأجور من صور الظلم الذي يُنهى عنه بشدة. ففي الحديث القدسيٍ: ” ثلاثة ٌ أنا خصمهم يوم القيامة: رجلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره”- حديثٌ حسن وفي ذلك دعوةً مباشرة إلى أهمية منح حقوق العباد إليهم كاملةً ودون مماطلة.

على صعيدٍ آخر تظهر أهمية منح العامل أجره المستحق في العديد من الجوانب الأخرى، مثل تعزيز العدالة الاجتماعية في المجتمع ككل، ودعم الاستقرار الاقتصادي، والحد من النزاعات العمالية، وتعزيز دور النقابات العمالية، والنظر في التشريعات القانونية، وترقية العديد من القوانين والمعايير كوضع الحد الأدنى للأجور، والتعويض العادل عن ساعات العمل الإضافي، ومواجهة التحديات الملحة مثل الاستغلال والتمييز في العمل.

اعرف المزيد عن: نظام حماية الأجور في قطر

حق العامل في عقد العمل

نظّم الإسلام العلاقة بين العامل وصاحب العمل، واعتبر وجود عقد عمل واضح أحد الأسس التي تضمن حفظ الحقوق والواجبات بين الطرفين. كما أكد على ضرورة التوافق بين العامل وصاحب العمل بشأن شروط العمل، بحيث تكون هذه الشروط مُوثَّقة بشكل واضح وصريح، لتجنب أي نزاعات مستقبلية. 

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) – المائدة: 1

العقد في الإسلام لا يقتصر على كونه وثيقة قانونية، بل يحمل بُعدًا أخلاقيًا وروحيًا، حيث يُعتبر عهدًا يجب الوفاء به. كما يحرص الإسلام على أن يتضمن العقد شروطًا عادلة تراعي حقوق العامل، مثل تحديد الأجر، وساعات العمل، والإجازات، بما يحقق التوازن بين مصالح الطرفين. 

وقد أشار النبي ﷺ إلى أهمية الوفاء بالعقود قائلاً: “المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا”- رواه الترمذي، فالعقد ضمان لكرامة العامل، وحمايةٌ لحقوقه من أي استغلال، وهو وسيلة لتنظيم بيئة العمل بما يحقق العدالة والمصلحة العامة، كما أنه ركيزةٌ أساسية في تعزيز الاستقرار الوظيفي للعامل، فحين تكون الأمور واضحةً بالنسبة للعامل يترقى تدريجيًا في منصبه مما يوفر له الأمان الوظيفي المريح. بالإضافة إلى أن عقد العمل يضمن الامتثال القانوني لكلا الطرفين.

خاتمة

منح الدين الإسلامي العامل مكانة رفيعة، فأكرمه واعترف بحقوقه المادية والمعنوية، مؤكدًا على أهميتها في بناء مجتمع متماسك. وقد جاءت العديد من الآيات الكريمة، وأحاديث السيرة النبوية الشريفة لتؤكد ذلك مراعيةً حقوق العامل المادية والمعنوية.

يقوم العدل في العلاقة بين صاحب العمل والعامل على مبدأ رعاية حقوق الطرفين دون ظلم أو إجحاف، استنادًا إلى القاعدة الشرعية: “لا ضرر ولا ضرار”. من هذا المنطلق، شدّد الإسلام على حماية الطرف الأضعف في هذه العلاقة، وهو العامل، وألزم أصحاب العمل بالوفاء بحقوقه كاملة دون تأخير أو تقصير.

تحقيق العدل في التعامل بين العامل وصاحب العمل لا يحفظ حقوق الأفراد فقط، بل يُسهم في ازدهار الأعمال ورفعة المجتمع. حين يلتزم العامل بواجباته بأمانة وإخلاص، ويحرص صاحب العمل على رعاية حقوقه، فتتوفر بيئة عمل مثالية تساهم في تنمية المجتمع واستقراره.