نظرة عامة
تُعتبر التجارة من الأعمال الدنيوية المستحبة، إذ ينشغل فيها الإنسان طلباً للرزق وسعياً لتحسين الأوضاع المعيشية لأسرته. وقد وضع الإسلام مجموعة من الضوابط والقيم الأخلاقية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وسيَّر الصحابة والسلف في تعاملاتهم التجارية.
خصصت الشريعة مساحةً كبيرة للحديث عن أخلاق التاجر في الإسلام، والتي تهدف إلى بناء مجتمع عادل ومزدهر. فقد حث الإسلام على الالتزام بالمبادئ الأخلاقية في كافة جوانب الحياة، بما في ذلك التجارة، ليَضمن للناس حقوقهم ويُعزز من قيمة الأمانة والصدق في التعاملات بينهم.
إذ لا يُنظر للتجارة كوسيلة لتحقيق الربح فقط، بل كفرصة للتعامل مع الآخرين برحمة وإحسان. حيث يوجه الإسلام التاجر إلى اتباع سلوكيات معينة من خلال تعاليم القرآن الكريم والسيرة الشريفة للنبي الكريم، من أجل الحفاظ على العدالة وتجنب الغش والخداع، مما يعزز الثقة بين التاجر والمستهلك ويضمن استمرارية العمل التجاري في بيئة حلال.
في هذا المقال:
- أخلاق التاجر في الإسلام
- آداب التاجر في الإسلام
- ضوابط التاجر في الإسلام
- التجار من الصحابة في الإسلام
- خاتمة
أخلاق التاجر في الإسلام
للتجارة أشكال عديدة في مختلف المجتمعات، إذ تدخل في كافة القطاعات والمجالات، مما يعني تعامل التجار مع المستهلكين بشكل يومي لملايين المرات. نظراً لأهمية ذلك وانتشاره حددت الشريعة أخلاق التاجر في الإسلام على النحو الآتي:
-
الصدق
يُعتبر صدق التاجر من القيم الأساسية التي حث الإسلام عليها في التجارة. فقد أكد القرآن الكريم والسنة النبوية على أهميته في المعاملات التجارية باعتباره من الركائز التي تضمن استمرارية العلاقة بين التاجر والمشتري.
قال الله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) – سورة الأنعام :152
تحث هذه الآية على العدل في القول والعمل في جميع المعاملات، بما في ذلك التجارة. فالتاجر المسلم صادقٌ في وعوده مع الناس، وصادقٌ في وصف سلعته فلا يلصق فيها من المحاسن ما ليس بها. كما أنه صادق في ذِكر مقدار ربحه. وقد بين النبي الكريم مكانة التاجر الذي يتحلى بالصدق فقال: “التَّاجرُ الصَّدوقُ الأمينُ المسلمُ مع النَّبيِّين” – ابن ماجه.
ربط القرآن الكريم بين تقوى الله عز وجل ومخافته من جهة، والصدق من جهة أخرى. فالصدق في القول والعمل من الأسس التي يجب أن يتحلى بها التاجر المسلم في معاملاته التجارية.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) – سورة الأحزاب: 70
وفي هذه الآية دعوةً عامة لكافة المسلمين ومنهم التجار إلى الصدق. بل إن التاجر الصادق سرعان من يلمس أثر صدقه على البركة في رزقه مثوبةً له من الله على إطاعته وتجنب معصيته، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “البَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِما” – صحيح البخاري.
-
الأمانة
لا تقل أهمية خُلق الأمانة لدى التاجر عن الصدق، إذ تظهر من خلال عدم خديعة الأشخاص الذين يتعامل معهم التاجر، وبذله النصح لهم، وتوجيههم للخير الذي يحبه لنفسه.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) – سورة الأنفال: 27
ينال التاجر الأمين استحسان الناس وحسن ظنهم به، فيُقبِلون على التعامل معه، وترك ودائعهم لديه، والشراء منه باطمئنانٍ ونفس راضية، لأنهم يعلمون مخافته الله، ومنحه كل ذي حقٍ حقه. وقد قال قتادة في ذلك: “اعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده، ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها” – سير أعلام النبلاء.
-
أداء الحقوق
يحرص التاجر المسلم على أداء حقوق الناس إليهم دون مماطلة أو تسويف، وعلى رأسها حقوق الله عز وجل في المال من الزكوات المفروضة ثم حقوق العباد كأجرة الأجير ودين صاحب الدين. كما أنه يسارع إلى أداء حق الصلاة فور سماع منادي الصلاة. إذ خاطب الله التجار في كتابه قائلاً:
قال الله تعالى: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) – سورة النور: 37
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) – سورة الجمعة: 9
يعلم التاجر العادل علم اليقين بأن الرازق هو الله، وأن الرزق كله بيده، لذلك لا يفضل كسب المزيد من النقود على إغلاق محله والانصراف إلى صلاته، بل يفعل ذلك عن تسليمٍ كامل لله لأنه يعلم أن الله سيؤتيه من الرزق أضعافه جزاء إطاعته إياه، وأداء أوامره.
-
تحري الحلال والحرام
يهتم العديد من التجار بتحقيق المكاسب والأرباح، وهم لا يهتمون بالوسيلة التي تأتي بها ما دامت تُدر مالاً، لكن التاجر المسلم لا يفعل ذلك، إذ إن لديه قاعدة هامة يعمل بناءً عليها؛ ألا وهي تحري الحلال من الحرام، وذلك مخافة من الله وتطبيقاً لأوامره.
قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) – سورة النساء: 29
إن تحري الحلال والحرام ليس عبادة وحسب بل هو منهج حياة يعود بالخير على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، فالمال الحلال يحقق سعادة التاجر وأسرته، إذ يعيش مطمئناً بعيداً عن القلق الناشئ عن الكسب الحرام ومصدر رزقه. كما أن تحري ذلك يغلق باب الربا، ويمنع الكثير من السلوكيات الضارة كالاحتكار والغش، بل إن الله جعل الكسب الحلال شرطاً لقبول العبادة والدعاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الرجلَ يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغُذِيَ بالحرامِ فأنَّى يُستجابُ لذلك” – حديث حسن.
لا ينبغي للتاجر المسلم أن يترك الأمور عالقة بين الحرام والحلال متذرعاً بعدم المعرفة، فقد دعا النبي إلى تحري ذلك بقوله: “الحَلالُ بَيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فمَن تَرَكَ ما شُبِّهَ عليه مِنَ الإثْمِ” – صحيح البخاري
-
الرحمة
يظهر خلق الرحمة في قلب التجار ويتجلى بتيسيرهم على الآخرين، إذ لا ينبغي للتاجر التضييق على الناس واستغلال حاجاتهم لتحصيل الأرباح منهم، كبيع الأشياء بأضعاف سعرها وقت شحها في السوق، أو زيادة سعر منتجٍ معين لعلم التاجر حاجة المستهلكين له في موسم معين أو خلال فترات الأعياد وغيرها.
حث النبي على تعزيز ذلك فقال: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى) – صحيح البخاري. يعكس هذا الحديث مكانة التجار الرحماء على أخوتهم المسلمين وغيرهم، ونبل أخلاقهم في الاقتداء بسنة الرسول الكريم.
من صور رحمة التاجر المسلم كذلك إسقاطه للديون على المتعسرين من المشترين، ممن يعلم حاجتهم وقلة حالهم وقصر يدهم، كالأرامل واليتامى والأطفال والعاطلين على العمل. فيبادر إلى مسامحتهم عن طيب نفس، رغبة بإرضاء الله ونيل جنته.
-
الابتعاد عن الشبهات
يجب أن يتحرى التاجر صحة تعاملاته مع الآخرين، ويحرص على أن تكون متوافقة مع شرع الله عز وجل، فلا يسمح بالحرام ليحصل ربحاً إضافياً أو يُتم صفقةً ما مهما بلغت مكاسبها.
قال الله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) – سورة الأنعام: 120
تُلزم الشريعة السمحاء التاجر المسلم بالتعرف على الأخلاق والمأمورات والمنهيات، فيأتمر بالمأمور ويترك المحظور، وذلك لكثرة انتشار المحرمات، وكثرة الشبهات التي تغلف المعاملات فتجعل حلالها حراماً، وحرامها حلالاً، فتحرفها عن الضوابط الشرعية التي أمر الله تعالى بها.
-
الإتيان بالصدقة
وجهت الشريعة الإسلامية التاجر إلى إخراج قدرٍ معين من المال كصدقة عن ماله، وذلك للجهات التي يُباح التصدق لها من المساكين والفقراء وذوي الحاجة. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “يا معشرَ التُّجَّارِ ! إنَّ البيعَ يحضرُهُ اللغوُ والحلفُ، فشُوبُوهُ بالصَّدقةِ” – الألباني.
في الحديث الشريف أيضاً إشارةٌ إلى ترك اللغو وهو الكلام الذي لا طائل منه ولا فائدة، وكذلك الإكثار من الحلف، إلى جانب التصدق. لذا يجب على التاجر المسلم ألا يغفل عن الصدقة، بل وأن يكثر منها فيجعل تجارته مع الله عز وجل، الذي سيثوبه على ذلك حسن الثواب، بالبركة في ماله، ورزقه، وأولاده، وبيته، ووقته.
اقرأ أيضاً: حقوق العامل في الإسلام
آداب التاجر في الإسلام
هناك مجموعة من التوجيهات النبيلة للتاجر المسلم، ويعد التحلي بها نوعاً من التأدب بأخلاق الإسلام. فيما يلي نتناول أبرز آداب التاجر في الإسلام:
-
الإقالة
تعني الإقالة رضا التاجر باسترداد بضاعة معينة اشتراها شخص منه لكنه ندم على شرائها لاحقاً لسبب من الأسباب. كحاجته إلى استرداد المال، وقد عرف الفقهاء الإقالة بالقول أنها “رفع العقد وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين”.
وهو أمر مندوب أي أنه مستحب وليس واجباً على التاجر أبداً، وقد حث النبي التجار على فعل ذلك مراعاةً لأوضاع الناس، ومن باب التآخي بين المسلمين، وتراحمهم بعضهم ببعض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: : “مَنْ أَقالَ مُسلِمًا؛ أَقالَ اللهُ عَثْرَتَه” – حديث صحيح.
-
وضع الجوائح
تعني الجوائح أن يكون لتاجر حق أو دينٌ على الآخرين، ثم يصيب محصولهم حريق أو طوفان او نحو ذلك من الكوارث الطبيعية التي تفسد البضاعة. من آداب التاجر آنذاك أن يعفو ويصفح ويُسقط حقه. وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : “إِنْ بِعتَ مِن أَخِيكَ ثَمرًا. [وفي روايةٍ]: لوْ بعْتَ مِن أخِيكَ ثَمَرًا فأصابَتْهُ جائِحَةٌ، فلا يَحِلُّ لكَ أنْ تَأْخُذَ منه شيئًا، بمَ تَأْخُذُ مالَ أخِيكَ بغيرِ حَقٍّ؟!” – صحيح مسلم.
على التجار أن يتقوا الله في أنفسهم وأموالهم وأن يكونوا عوناً لغيرهم في الأزمات أوقات الحر والبرد وما يشابهها. وعلى الرغم من أن بعض العلماء رأوا في هذا نوعاً من الأدب المستحب غير المفروض على التجار، إلا أن بعضهم الاخر رآه أكلاً لمال المسلم أخيه بالبالطل فشدد حرمته.
-
النية الصادقة
يوجه الإسلام التاجر المسلم إلى النية الصالحة، فهي سبب في تحول العادات إلى عبادات، فأمر المسلم كله موجه لله عز وجل حتى في تعاملاته وسلوكياته اليومية بعيداً عن الطاعات والعبادات. يمكن للتاجر أن يتخذ من تجارته وسيلة لصلة الأرحام، والأعمال الخيرية، والهبات، والأعطيات للمحتاجين والمساكين.
حث الإسلام إلى إصلاح النوايا ودعا إليها في الكثير من التوجيهات القرآنية والنبوية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى” – صحيح مسلم. وبذلك تتضاعف حسنات التجار في لحظة نيتهم القيام بشيء حسن، ابتغاءً للخير والمشاركة في بناء الأمة حاضراً ومستقبلاً.
اعرف المزيد عن آيات قرآنية في حقوق العمال
ضوابط التاجر في الإسلام
حذر الإسلام التاجر المسلم من القيام ببعض المحاذير، التي لها أثر سلبي على اقتصاد المجتمع ككل، وفيما يلي نتناول أبرزها:
-
الربا
يُعرف الفقهاء الربا على أنه زيادة مخصوصة لأحد المتعاقدين خالية عما يقابلها من العوض، وقد كانت العرب في الجاهلية تتعامل في الربا بالتجارة والبيع والشراء، حتى جاء الإسلام وحرمه تحريماً قطعياً.
قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) – سورة البقرة: 275
على التاجر المسلم تجنب الربا وما كان ذريعة ووسيلة إلى التعامل بها من العقود الفاسدة، فالمرابون محاربون لله ورسوله، والربا من السبع الموبقات، وصاحبه ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الشريف: “لَعَنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ، وآكِلَ الرِّبَا ومُوكِلَهُ” – صحيح بخاري. بل شدد الله من عقوبة المرابي وبينها في قوله:
قال الله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) – سورة البقرة: 279
-
الغش
يُعد الغش عادة سيئة منتشرة بين التجار، فالكثير منهم يقوم بإخفاء عيوب بضاعته وعرضها على أنها ممتازةٌ أو من النخب الأول، مظهراً محاسنها، فيقوم بتزوير تاريخ الصلاحية والانتهاء، أو يكذب حول بلد الإنتاج والتصنيع، أو حول مكوناتها فيلصق بها ما ليس فيها، أو يغش بشأن جودتها. وغيرها من أنواع وطرق الغش الكثيرة.
يجب على التاجر المسلم أن يبتعد عن الغش لأنه من المعاملات المحرمة والصفات الذميمة التي حذر النبي منها فقال صلى الله عليه وسلم: “من غَشَّنا فليس مِنَّا” – ابن المنذر. في إشارة إلى أن المسلمين يجب أن يكونوا من أهل التقى والصلاح، والصدق والأمانة، لا غش الناس والتلاعب بهم.
-
التطفيف
عرف الإمام ابن كثير التطفيف بأنه البخس في الميزان والمكيال، إما بالزيادة أو النقصان، فإذا أخذ التاجر لنفسه أخذ أكثر من حقه وزاد في المكيال، أما إذا كال للناس أنقص من حقهم وأقل من واجبهم.
قال الله تعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) – سورة المطففين: 1-3
تُظهر الآيات أهمية الابتعاد عن التطفيف خوفاً من عذاب الله عز وجل، إذ توعد المطففين بوادٍ في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار كما قال ابن عباس. وللمسلم الفطن الكيّس عبرة في قوم مدين في ذلك، وهم قوم نبي الله شعيب عليه السلام، إذ كانوا يطففون الموازين كما شاؤوا، فدعاهم النبي شعيب للعودة عن ذلك والتوبة عن الذنب، فأبوا وأصروا، فجعل الله عذابهم الحر والنار.
-
الاحتكار
يُعد الاحتكار من الصفات السيئة للتاجر في الإسلام، ويعني حبس البضاعة وقت حاجة الناس لها وعدم بيعها بقصد ارتفاع سعرها، وبعد تعاظم الحاجة لها سيقبل الناس على شرائها بأي ثمن. وقد حذر الإسلام من الاحتكار لما فيه من تضييق على المجتمع. وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك بالقول: ” مَنِ احْتَكَرَ فَهو خاطِئٌ” – صحيح مسلم.
بين الإسلام أيضاً صفات السلعة المحتكرة وشروطها، لكي يتمكن التاجر من التفريق بين الاحتكار وبين المهارة والذكاء المباح. ومن أهم الشروط التي يتحقق معها الاحتكار؛ أن يكون المحتكر طعاماً، أو ما يحتاجه الناس ويتضررون بحسبه، وأن يتملك التاجر السلعة عبر الشراء، وأن يكون الشراء وقت الغلاء، وأن يقع الضرر على المسلمين بالاحتكار.
-
الرشوة
تعني الرشوة اصطلاحاً المال الذي يُعطى لإحقاق الباطل أو إبطال الحق ونحو ذلك من المقاصد السيئة، وقد يميل التاجر إلى دفع الرشوة أو تلقيها من اجل احتكار سلعة ما، أو تخفيض سعر بضاعة معينة خاصة إذا كان عاملاً في مؤسسة تجارية كبيرة ويتلقى نسبة من المبيعات أو عمولةً عليها.
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي، فقال النبي: “فَهَلَّا جَلَسَ في بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى له أَمْ لَا؟ والذي نَفْسِي بيَدِهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ منه شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى رَقَبَتِهِ، إنْ كانَ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ بيَدِهِ حتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إبْطَيْهِ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا” – صحيح البخاري.
يبين الحديث الشريف عِظم الأمر في الدين الإسلامي، وفيه توجيهٌ واضح لكل تاجرٍ ومسلم بألا يقبل الرشاوي المقدمة على شكل هدايا أو أُعطيات، فمال الرشوة حرام ولا يجوز لأهل بيته الانتفاع منه أو الأكل منه.
التجار من الصحابة في الإسلام
كانت التجارة واحدةً من أكثر الأعمال الشائعة في التاريخ الإسلامي، فقد انتشرت إلى أبعد من البحر الأبيض المتوسط وما حوله من البلدان، إذ وصل التجار المسلمون إلى الهند وبلاد فارس، والصين، والحبشة وما حولها. بل إن التاريخ الإسلامي غزيرٌ بالصحابة التجار ممن تمثلوا بأخلاق التاجر المسلم على أحسن وجه. وفيما يلي نتناول بعضاً منهم:
-
أبو بكر الصديق
وهو خليفة رسول الله وأول الخلفاء الراشدين، فكان خير قدوة لمن بعده في التمثل بأخلاق التاجر الحسن والطيب، في الفضائل والأخلاق الحميدة كالصدق والأمانة، والوفاء بالعقود، ورد الحقوق لأصحابها، وتجنب الغش والاحتكار، والتيسير على المسلمين، وغيرها.
من أبرز صور إنفاق أبو بكر الصديق رضي الله عنه لماله؛ عتقه للرق، فقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال: “أسلم أبو بكرٍ وله أربعون ألفَ درهمٍ، قال عروةُ: وأخبرتني عائشةُ أنَّه مات وما ترك دينارًا ولا درهمًا” – صحيح. فأعتق بلال بن رباح، وعامر بن فهيرة، والنهدية، وجارية بني المؤمل، وأم عبيس وغيرهم.
كما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا فقلتُ اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا قالَ فَجِئْتُ بنِصفِ مالي فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أبقيتَ لأَهْلِكَ قلتُ: مثلَهُ وأتَى أبو بَكرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ فقالَ: يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ فقالَ: أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ قلتُ لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا” – صحيح الترمذي.
-
عبد الرحمن بن عوف
كان عبد الرحمن بن عوف من خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعُرف بمهارته ودهائه في التجارة. وكان من أهل مكة المكرمة فلما وقعت الهجرة وارتحل إلى المدينة، أوصى النبي بماخآة الأنصار من المدينة المنورة للأنصار، فآخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف.
لما أراد بن الربيع أن يمنح جزءًا من ماله وتجارته إلى عبد الرحمن بن عوف، رفض عبد الرحمن ذلك وقال: “لا حاجة لي في ذلك هل من سوق فيه تجارة؟”. وأصبح من أكبر وأغنى تُجار المدينة كما كان في مكة المكرمة، حتى أنه دخل على أم المؤمنين أم سلمة مرة فقال: “يا أمَّ المؤمنينَ، إنِّي أخْشى أنْ أكونَ قد هلَكْتُ، إنِّي من أكثَرِ قُرَيشٍ مالًا، بعْتُ أرضًا لي بأربعينَ ألفَ دينارٍ، فقالتْ: أنفِقْ يا بُنيَّ” – صحيح.
فكان آل البيت يدعون التجار من الصحابة إلى الإنفاق والصدقة حتى يأكل الغني والفقير، ولا يستقوي القوي على الضعيف. وفي ذلك إشارة إلى أهمية التاجر المسلم وأثر عمله في العبادات ومنها الزكاة والصدقة، ولنا في عبد الرحمن بم عوف رضي الله عنه مثالٌ حسنٌ في ذلك إذ كان يقضي ديون المدينين، ويتصدق للمحتاجين.
-
عثمان بن عفان
هو الخليفة الثالث في الإسلام، وكان من أبرز وأهم تجار الدولة الإسلامية، إذ اشترى بئر رومة بماله من يهوديٍ كان يحتكرها ويبيع الماء للمسلمين، وفي ذلك صورة من التيسير ورفع العسرة. فقد روى عثمان بن عفان أن رسول الله قال: “مَن يشتري بئرَ رومةَ فيجعلَ دلوَهُ معَ دلاءِ المسلمينَ بخيرٍ لَهُ منها في الجنَّة؟ فاشتريتُها مِن صلبِ مالي” – صحيح الترمذي.
كما كان لعثمان بن عفان رضي الله عنه دورٌ كبير في تجهيز جيوش المسلمين، ومنها جيش العُسرة في غزوة تبوك، إذ جهزه بتسعمائة وخمسين من البعير، وأتمها بألفيٍ وخمسين فرساً، وهو ما ساهم في نصرة المسلمين على المشركين وتوسع الدولة الإسلامية، ودخول الكثيرين في الدين الإسلامي حباً وطوعاً.
-
طلحة بن عبيد الله
يُعتبر طلحة بن عبيد الله من أكثر صحابة رسول الله إنفاقاً، إذ كان تاجراً معروفاً بين المسلمين، يكسب الكثير من المال، فينفقه في سبيل الله رغبةً في رضا الله ورسوله. ومن إحسانه من أموال تجارته أن ساهم في تجهيز جيوش المسلمين بأربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف درهم.
كما كان كافلاً لعائلة من قبيلة تيم فلا يترك منهم فرداً إلا كفاه مؤونته ومؤونة عياله، وزوج الراغبين منهم من الشبان، وقضى ديون غارميهم. كما كان كثير التصدق بالماء والطعام والمال للمحتاجين من المسلمين. وكان كذلك يساهم بزراعة أراضي المسلمين ليُوزع ثمرها على الجميع بسخاء.
وهناك الكثير من الصحابة الذين عملوا بالتجارة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، والزبير بن العوام وغيرهم.
خاتمة
أخلاق التاجر في الإسلام ليست مجرد توجيهات دينية، بل هي أسس تُبنى عليها العلاقات التجارية والاجتماعية الناجحة في المجتمع. فالصدق، والأمانة، والعدل، وحسن التعامل، ليست فقط مبادئ تعزز ثقة العملاء وتحقق النجاح الدنيوي، بل تُعد طريقًا للفلاح الأخروي ورضا الله عز وجل، كما جاء في تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية.
عندما يلتزم التاجر بهذه الأخلاقيات، فإنه يُسهم في بناء مجتمع قائم على العدالة والنزاهة، ويُظهر صورة مشرقة عن الإسلام وتعاليمه. لذا، فإن التاجر المسلم يحمل مسؤولية ليس فقط تجاه عمله، بل تجاه دينه ومجتمعه، مما يجعل أخلاقه انعكاساً عملياً للقيم الإسلامية في الحياة اليومية.